خداع الذات

 مدة القراءة: 8 دقائق


إنهُ لعائقٌ رئيسي أمام معرفة الذات، وبالتالي أمام حياةٍ مزدهرة، هو ميلُ جزءٍ من العقل إلى الكذب على الجزء الآخر.


نحن نكذب على أنفسنا لأسبابٍ قد تبدو مفهومةً تمامًا: نريدُ تجنّب الألم. نصبحُ خبراء في دفع الأفكار المزعجةِ بعيدًا إلى اللاوعي لأننا نخشاها.


Narcissus, 1955 by Caravaggio




الأكاذيب التي نخبر بها أنفسنا


هناك أربعة أمورٍ قد نميلُ بشكلٍ خاص إلى الكذب على أنفسنا بشأنها:


  1. الأشياء التي نحتاج إلى تغييرها في حياتنا


نحن نكذب بشأن جميع الجوانب الإشكالية التي تتطلب جهدًا كبيرًا لتغييرها: وظائفنا، علاقاتنا، صداقاتنا، علاقاتنا بأسرنا، صحتنا، عاداتنا وأفكارنا.


  1. الأشياء التي قد تزعزع صورتنا الذاتية


نحن نكذب لأننا بحاجة إلى أن نفكر جيدًا في أنفسنا، ونكرّس أنفسنا لتخيّل أننا طبيعيون تمامًا، من دون مشاعر حبٍ غريبة أو كراهية أو أفكار شاذة.


  1. الأشياء التي نرغب بها ولا يمكننا الحصول عليها


نحن نكذب لأننا لا نريد أن نشعر بالنقص، ولأننا نفتقر إلى الكثير من الأمور الجيدة.


  1. الأشياء التي نغضب من الآخرين بسببها


نحن نكذب لأننا غاضبون من أشخاص يُفترض أننا نحبهم. ونكذب لأن ما يغضبنا يبدو تافهًا وسخيفًا على شخصٍ بالغ أن يهتم به.



Interior with Young Woman from Behind, 1904 by Vilhelm Hammershøi


كيف نكذب على أنفسنا


نظراً لمدى خطورة الحقيقة التي يُمكن أن نشعر بها تجاه أنفسنا، اضطررنا إلى أن نتعلم أن نكون أساتذةً في الخداع. تقنياتنا متنوعة، ذكية، وغالبًا خيالية جدًا. إليك بعض المناورات الرئيسية التي نستخدمها لخداع ذواتنا:



التشتت أو الإدمان

نجد شيئًا يُبعد تفكيرنا بشكلٍ فعال عن مواجهاتنا الداخلية. الإدمان على الإباحية، أو متابعة الأخبار، أو التدخين والكحول، أو الانشغال المفرط بالعمل. نحن لا نحب هذه الأشياء بحد ذاتها، بل نحب قدرتها على صرفنا عما نخافه.




البهجة الهستيرية

الحزنُ الذي لا نستطيع الاعتراف به غالبًا ما نغطّيه بجرعاتٍ مبالغ فيها من البهجة الزائفة. لسنا سعداء، بل غير قادرين على الشعور بالحزن خوفًا من الانهيار أمام ألمِنا المدفون. نطوّر عادةً هشة وملحّة لنقول أن كل شيء يبدو على مايرام. ”أليس هذا رائعًا؟“ نقولها بإصرار، لا نترك مجالًا لأي رأيٍ مخالف.




التهيّج المفرط

الغضب المكبوت من شخص أو موقف معين يتسرّب إلى شكل من التهيّج المعمم. الكذبة ناجحة جدًا لدرجة أننا لا نعرف أصل المشكلة: فقط نفقد أعصابنا. شخص ما نقل جهاز التحكم، نفاد البيض من الثلاجة، ارتفاعٌ طفيف في فاتورة الكهرباء… أي شيءٍ يمكن أن يفجّرنا غضبًا. عقولنا ممتلئة بالأمور المرهقة والمزعجة لدرجة أننا بكل عبقرية لم نترك مكانًا للتركيز على المسألة الحزينة الحقيقية.




التحقير

نقول لأنفسنا أننا ببساطة لا نهتم بشيءٍ ما - الحب أو السياسة، النجاح المهني أو الحياة الثقافية، تلك السيارة الفارهة أو المنزل الذي لا نملكُ ثمنه. ونؤكد بشدة على عدم اهتمامنا وازدرائنا. نبذل قصارى جهدنا للتوضيح للآخرين ولأنفسنا مدى عدم اكتراثنا على الإطلاق. يجب أن لا يكون هناك أي خطأ. نحن ببساطة لا نهتم مطلقًا. إنهم جميعًا أغبياء. إنه مضيعةٌ للمال. يا لهم من حمقى! قد نلجأ إلى تفسيرات طويلة ومثقفة وجدلية حول سبب عدم إعجابنا بشيءٍ ما. نصبحُ أكثر عقلانيةً وواقعية. نكون أكثر بلاغة وذكاءً في صد أي فكرة قد تكون لدينا للاهتمام بشيء ما من الدفاع عن أي شيء نحبه بالفعل.




الرقابة المفرطة

نصبح صارمين ومنتقدين لسلوكياتٍ معينة أو لأشخاص معينين. لكن الحقيقة أننا نكره بشدة شيئًا ما بداخلنا نشترك فيه مع من نُدينه. نسعد عندما يُعتقل أشخاص معينون أو يُوبخون في الصحافة؛ ما فعلوه كان فظيعًا للغاية، نقولها بكل إصرار، وغضبنا يحمينا من أي خطرٍ لكشف الصلة بينهم وبيننا.


عندما تُصبح مشاعرنا مُعقّدة للغاية، نُحيلها ببساطة إلى شخصٍ آخر. بدلًا من تقبّلها على أنها مشاعرنا، نُقنع أنفسنا بأنها موجودة فقط لدى الآخرين، الذين نُهاجمهم ونُراقبهم كما ينبغي. ربما بدأ شريكك بالحديث عن حفلةٍ يُقيمها شخصٌ مُتوسط الشهرة. أنت مُتحمسٌّ لذلك، لكنك تخشى أن تُظهر حماسك. خُلقت لتكون مُساويًا وجادًا، لذا لا يُمكنك أن تُريد هذا. لذا، وبشكلٍ مُقنع، يبدو أن شريكك وحده هو من يُريد ذلك، ثم تتّهمه بأنه "مُتسلّق اجتماعي". لقد وجدتَ الشخص المثالي الذي تُوجّه إليه رغباتك غير المقبولة.




الدفاعية

عندما نتلقى أخبارًا غير سارة، قد نلجأ إلى أسلوب تشتيتٍ ناجحٍ للغاية: الشعور بالإهانة. يحاول زميلٌ لنا تقديم بعض الملاحظات. فنتّهمه فورًا بالوقاحة والغطرسة والشعور بالاستحقاق. يُشير شريكنا إلى أمرٍ ما، فنغضب لأنه يضغط علينا في وقتٍ عصيب. يستحوذ الشعور بالإهانة على كل انتباهنا، ويُعكّر صفو الأمور. لم نعد مضطرين للتركيز على معلوماتٍ صحيحةٍ ولكنها معقدة.




السخرية أو اليأس

نكون حزينين بشأن أمورٍ معينة، لكن مواجهتها قد تكون شاقة للغاية لدرجة أننا نعمّم الحزن ليشمل كل شيء. لا نقول إن س أو ص سبب حزننا؛ بل نقول: إن كل شيءٍ سيء والجميعُ مريعون. ننشر الألم على مساحةٍ أوسع حتى لا نضطر لمواجهة أسبابه المحددة والحقيقية. وبصورة مجازية، يضيع حزننا وسط الزحام.




La reproduction interdite, 1937 by Rene Magritte


لماذا لا نكذب على أنفسنا؟


قد لا تبدو فكرة عدم الصدق مع أنفسنا مقبولة، ولكن لماذا لا نكذب بكل بساطة إذا كان ذلك أكثر متعة؟ ما المشكلة في إخفاء الحقيقة عن أنفسنا إذا كنا نعاني كثيرًا من الحقيقة؟ السبب هو أن خداعنا لذواتنا دائمًا له ثمن. نخسر الكثير من العفوية، التواصل والأصالة.

السر يكمن في تعلم أن نتحمل الحقيقة وأن نتعافى بها.


لا شك أن سلوك هذا الطريق، ومحاولة إعادة تشكيل الذات، أمر ينطوي على مخاطرة. فهو يتطلب تحمّل ألم شديد ناتج عن كشف خداعنا لذواتنا، ويفتح لنا المجال للسخرية.

ومع ذلك، فإن البديل — أي البقاء على الجسر المتزعزع لخداع الذات — قد يحمل في نهايته معاناة أكبر بكثير.

فكما في قصة إيفان إيليتش في رواية تولستوي، نحن نخاطر بأن نهدر حياتنا، ولا نصل إلى إدراك أننا كنا في الواقع ”ننزلق نحو الأسفل“ — كما عبّر تولستوي — ”وليس نحو الأعلى“ إلا بعد فوات الأوان.


ولذلك، ما دمنا لا نزال نملك الوقت للتغيير، فسيكون من الحكمة أن نصغي إلى نصيحة الكاتب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي:


”قبل كل شيء، لا تكذب على نفسك. المرءُ الذي يكذب على نفسه ويُصغي إلى كذبته، يصل إلى مرحلة لا يعود فيها قادرًا على تمييز الحقيقة في داخله أو من حوله، وبهذا يفقد كل الاحترام لنفسه وللآخرين.“

(فيودور دوستويفسكي – الإخوة كارامازوف)


المصادر: 1 2 3


تعليقات