التفاؤل المأساوي

 التفاؤل المأساوي هو البحث عن المعنى وسط المآسي الحتمية للوجود البشري، وهو أفضل لنا من تجنب الظلام ومحاولة أن نبقى إيجابيين.   ــ سكوت باري كوفمان




يوجد عدد لا يُحصى من الكتب حول قوة الامتنان وأهمية تعديد النِعم التي تحصل عليها، ولكن هذا الشعور قد يبدو وكأنه مواساة باردة أثناء جائحة فيروس كورونا، عندما بدت النِعم ضئيلة جدًا في كثيرٍ من الأحيان. قد يؤدي رفض النظر إلى ظلام الحياة وتجنب التجارب غير المريحة إلى الإضرار بالصحة العقلية. هذه لإيجابية السامة هي في النهاية إنكارٌ للواقع. إن إخبار شخص ما بالبقاء إيجابياً في خضم أزمة عالمية يعتبر إضاعة فرصة ثمينة للنمو، ناهيك عن احتمال حدوث نتائج عكسية قد يجعل الأمور اسوأ مما هي عليه. كما كتب الباحث عن الامتنان روبرت إيمونز من جامعة كاليفورنيا، ”إنكار أن الحياة لها نصيبها من خيبات الأمل، الإحباطات، الخسائر، الأذى، النكسات والحزن سيكون أمرًا غير واقعي ولا يمكن الدفاع عنه. الحياة معاناة. لن يغير أي قدر من تمارين التفكير الإيجابي هذه الحقيقة.


الترياق المضاد للإيجابية السامة هو ”التفاؤل المأساوي، وهي عبارة صاغها عالم النفس الوجودي الإنساني والناجي من محرقة الحرب العالمية الثانية ڤكتور فرانكل. التفاؤل المأساوي ينطوي على البحث عن المعنى وسط المآسي الحتمية للوجود البشري، وهو شيء أكثر عملية وواقعية خلال هذه الأوقات العصيبة. وجد الباحثون الذين يدرسون ”النمو مابعد الصدمة أن الناس يمكن أن يزدهروا من الأوقات الصعبة بعدة طرق - بما في ذلك امتلاك تقدير أكبر لحياة الفرد وعلاقاته، بالإضافة إلى زيادة التعاطف والإيثار والغاية والاستفادة من نقاط القوة الشخصية والارتقاء الروحي، والإبداع. الأهم من ذلك، ليس الحدث الصادم نفسه هو الذي يؤدي إلى النمو (لا يوجد من هو مُمتن لـCOVID-19)، ولكن بالأحرى كيفية معالجة الحدث، والتغييرات في نظرتنا إلى العالم التي نتجت عن هذا الحدث، والبحث الفعال عن المعنى الذي يقوم به الأشخاص أثناء الحدث ومابعد ذلك.

التعلم الأعظم للفنان دافيد بلانيتا.

التعلم الأعظم في العصور يكمن في قبول الحياة تمامًا كما تأتي إلينا.

 ــ آنثوني دي ميلو




في السنوات الأخيرة، بدأ العلماء بإدراك أن ممارسة الامتنان يمكن أن تكون محركًا رئيسيًا للنمو ما بعد الصدمة أو بعد حدثٍ ضار، وأن الامتنان يمكن أن يكون قوة كامنة للشفاء. في الواقع، يرتبط عدد من نتائج الصحة العقلية الإيجابية بالممارسة المنتظمة للامتنان، مثل تقليل مخاطر الإصابة بالاكتئاب والقلق واضطرابات تعاطي المخدرات على مدى الحياة.

القدرة البشرية على المعاودية* استثنائية للغاية ولا تحظى بالتقدير الكافي.

*المعاودية: القدرة على العودة إلى حالة ما قبل حدوث الأزمة أو الصدمة. نوعٌ من التكيف الإيجابي للمواقف والظروف الصعبة مما يُمَكّن صاحبه للرجوع لوضعٍ قريبٍ مما كان عليه قبل تلك الصعوبات. (@yasseraddabbagh)

في نهاية الأمر، لدى البشر ميل طبيعي للتكيف والاعتياد على المواقف المستقرة نسبيًا. عندما يدرك الأفراد أن مزاياهم ليست مضمونة، فإن الكثيرين يقدّرونها بشكلٍ أكبر. كما قال الكاتب جي كي تشيسترتون، حتى ندرك أن الأشياء قد لا يمكن أن تكون، لا يمكننا أن ندرك وجودها.


في الواقع، وجدت العديد من الدراسات أن الأشخاص الذين واجهوا ظروفًا صعبة أفادوا بأن تقديرهم للحياة نفسها قد ازداد، وأن بعض الأشخاص الأكثر تقديرًا قد مروا ببعضٍ من أصعب التجارب. واجهت كريستي نيلسون الموت في سن 33، عندما تم تشخيصها بالسرطان واضطرت للخضوع للعديد من العمليات الجراحية والعلاج الكيماوي والإشعاع. ومع ذلك، تكتب أنها كانت تبحث باستمرار عن فرص لتنمية الشُكر:

كنت في المستشفى، منفصلة عن جميع أصدقائي وعائلتي ومقيّدة بجميع أنواع الحقن الوريدي وأتعامل مع الألم. ومع ذلك، كان لدي ممرضات وفنيون وأطباء وعمال نظافة يأتون إلى غرفتي كل يوم. أتذكر أنني كنت أفكر، ماذا لو كان هذا هو عالمي كله الآن، ماذا لو كان هذا كل ما لدي؟ ثم فكرت أنه يمكنني دائمًا أن أُحب هؤلاء الأشخاص.


تُميز نيلسون بين الامتنان - شعور مؤقت - والشُكر، ”التوجه الكامل الذي ”لا يشترط حدوث شيءٍ ما لنا، بل على الطريقة التي نصل بها إلى الحياة. جزء من كوننا بشر هو أننا سننسى معاناتنا الماضية ونبدأ في أخذ حياتنا الحالية والتسليم بها. ولكن كما تلاحظ نيلسون، العمل هو أن نتذكّر أكثر مما ننسى.




ابتكرت باحثة الامتنان ليليان جانس بيكن وعالم النفس الإيجابي الوجودي بول وونغ مقياس الامتنان الوجودي لقياس النزعة التي يشعر بها الناس بالامتنان لكل الوجود البشري، وليس فقط للجوانب الإيجابية.

فيما يتضمن المقياس عدة بنود منها:
  • أنا ممتن لحياتي حتى في أوقات المعاناة.
  • أنا ممتن لأن إمكانياتي الداخلية قد زادت نتيجة للتغلب على المشاكل.
  • أنا ممتن لوجود بعض الأشخاص في حياتي، ممتن حتى لأولئك الذين تسببوا لي في الكثير من الألم.
  • أنا ممتن بأن لدي سببًا أعيش من أجله، حتى وأن كانت الحياة بائسة بالنسبة لي.
  • أنا ممتن لأن كل أزمة بمثابة فرصة لي للأرتقاء.
  • لقد أدركت أهمية الامتنان الحقيقي من خلال ما مررت به من معاناة.

وقد تبيَّن للباحثين ارتباط الامتنان الوجودي بـ الرفاهية الروحية العالية (إدراك الجودة الروحية لحياة الفرد).
هذا الاستنتاج مهم نظرًا إلى الامتنان والروحانية على أنهما عاملين وقائيين ضد كل من القلق والاكتئاب على حدٍ سواء.

الجوهر الروحي للامتنان مهم إذ أن الامتنان أكثر من مجرد وسيلة لتحسين الذات النرجسية. 
هناك اعتقاد خاطئ شائع بأن الامتنان مصلحة شخصية وفعل أناني وأن الأمر كله يتعلق بتقدير الذات وفضائلها على حساب معاناة الآخرين. وكما لاحظ إيمونز والمحلل النفسي روبن ستيرن من مركز ييل للذكاء العاطفي بأن الامتنان الحقيقي يبهج الآخر. وهدفه الأسمى هو إنعكاس للخير الذي تلقاه المرء من خلال البحث عن فرص العطاء بشكلٍ خلّاق.
أيضًا أفاد الباحثين الذين أجروا دراسة الامتنان الوبائي، بأنه كلما كان الناس أكثر امتنانًا كلما كانوا أكثر ميلًا  لمساعدة الآخرين.

الامتنان كالخاطر العابر يمكن أن يأتي ويذهب، لكن الشُكر أو الامتنان الوجودي يجتاح حياتك بأكملها رغم تقلباتها.  
فهو لا يتطلب شيئًا إلا انه يتطلع إلى إيجاد المكاسب الخفية وفرص الارتقاء في كل شيء حتى أثناء الجائحة العالمية. كما قال إيمونز في مؤتمر المعنى الدولي الأخير الامتنان ليس مجرد مفتاح يتم تشغيله حين تسير الأمور على ما يرام، إنه أيضًا نورٌ يضيءُ في الظلام.




ترجمة: سهام - أحمد


تعليقات