الإنصات إلى الملل



من بين أكثر السمات بروزاً للأطفال الصغار هي الاستياء الشديد من الملل. بإصرارٍ جامحٍ لا هوادة فيه يباشرون مهنةً تلو الأخرى ويتحولون كلما ظهرت آفاق أكثر جاذبية. قد يقتضي النهار بإخراج ثمانية ألواح العاب من الخزانة، كما يبدو انه قد حان الوقت لتجربة لعبة الثعابين والسلالم، ومن ثمَّ تحويل الأريكة الى لوح تزلج، ثم محاولة سحب ذيل لعبة الأرنب، ثم أعقب ذلك باستكشاف ما سيحدث لبسكويت الشوكولاته عندما يقوم أحدهم بطرقه. ناهيك عن قلب كراسي المطبخ رأساً على عَقِب لشن معركة بحرية ملحمية.


إن ما نسميه بالتعليم يشكل الى حدٍ كبير محاولة لتنظيم تلك الفوضى العارمة؛ وتعليم الطفل بتجاهل حماسه العفوي وأن يتعلم فضلاً عن الجلوس مع الملل إنجاز شيء ملحوظ كالاستماع إلى خطاب مُسهب عن حُسن اللطف من قبل قائد المدرسة دون صراخ، أن يبقى ثابتاً لمدة 45 دقيقة أثناء درس الرياضيات دون رقص، أن يقاوم الاغواء لرسم عالم خيالي خلال صف دراسي تمهيدي لـ الللغة الفرنسية.

لأن "الطفل الجيد" هو من يُتقن فن قمع الملل بأسم النضج.

إن الأساس المنطقي وراء هذه الخطوة التعليمية راسخً ومتين ومن الواضح أن المكاسب عظيمة للتخلص من اللحظة التي يدخل فيها خيال جديد إلى ذهن المرء.

يبدو أن المشكلة ليست بأننا اعمياء عن المنطق بل لأننا بارعون في الاستسلام وتحمّل الملل الى حدٍّ كبير.


وعلى طول الطريق نجهل بأن الملل له العديد من المزايا المهمة ليعلمنا بها. 

إن الملل، في أفضل حالاته، عبارة عن إشارة من جزءٍ عميق في أذهاننا، مشوشة وغير واضحة ولكنها حقيقية تخبرنا أن هناك خطبٌ ما، قد لانعرف ماهو، لكن غالباً الشعور بالملل (خاصة للبالغين العقلاء) هي فكرة مُضجِرة وغير مريحة بحد ذاتها، وسيبذل الناس جهودًا عظيمة واتخاذ قرارات خاطئة لتجنبه - في إحدى الدراسات، اختار معظم الناس إجراء الصدمات الكهربائية على أنفسهم بدلاً من الجلوس بمفردهم مع أفكارهم لمدة 6 إلى 15 دقيقة. بهذا المعنى، الملل هو قوة محفزة، وهذا ما يميزه الباحثون عن الاكتئاب.

ولذلك، فهناك كُتب مملة يجب بإنصاف حقيقي ان تُرمى جانباً، وهناك أُناسٌ مملون يجب أن نرفضهم حتى لا نذبل ولا يتسنى لنا رؤيتهم، ايضاً هناك افلامٌ مملة يجب أن نوقفها تماماً.

مايجب ان يعزز من شجاعتنا للقيام بذلك هو الوعي المستمر بأن القيمة الاساسية في حياتنا هي الوقت، وهو ما نفتقر إليه بشدة، حيث لا يوجد أكثر من 26000 يوماً او نحو ذلك طيلة حياتنا.





قال كاتب المقالات الأمريكي رالف والدو إيمرسون ذات مرة: "في عقول العباقرة، نجد - مرةً أخرى - أفكارنا المُهمَلة"

هذا يعني أن معظمنا يصبح متوسطًا ليس لأننا فشلنا في إقدام أنفسنا بصرامة كافية لمعرفة العالم، ولكن لأننا قد تطورنا جيدًا في تجاهل أفكارنا ودوافعنا الفطرية. لقد خنقنا مشاعر الملل الخاصة بنا من أجل الإنصياع للسلطات الكبرى ودفعنا ثمناً باهظاً لأدبنا هذا. من نسميهم بالعباقرة، من هذا المنظور تحديدًا، ليس لديهم أي شكل من أشكال الحكمة الفطرية أو النادرة، فهم ببساطة مُخلصون بشكل استثنائي تجاه جوانب حياتهم الداخلية: هم أولئك الذين تمكنوا من التمسك بأشياء يستسلم لها بقيتنا لخوفنا المبالغ فيه من أن نكون غرباء أو عنيدين.

إن الإنصات إلى مشاعر الملل لدينا يعطينا الفرصة لإعادتنا وجرّنا إلى مخاوفنا الحقيقية. نحن ندرك بالفعل ذوقنا في الأدبيات، وما نوع الترفيه الذي نذهب إليه، وما الذي يثير حماسنا تجاه الآخرين.

الملل يعمل كمشرط يمكننا من خلاله قطع كل ما هو "هالك" وخاطئ من حياتنا. الشجاعة في الاعتراف بمللنا تسمح لنا، شيئًا فَشيئًا، بنمو وتطوير شخصية حقيقية.

الملل هو الصوت العاجز عن التعبير لفكرة جوهرية: كأن شيئًا ما قد تم بيعهُ لنا بسعرٍ مبالغٍ فيه ويجب تخفيضه.



يُقال أن العديد من الفنانين مع تقدمهم في السن يتحسن لديهم الاستماع إلى مللهم بشكلٍ غريزي - ويُنتجون عملاً متفوقًا إلى حد كبير نتيجة لذلك، وهو ما يشير إليه النقاد بشكلٍ عام على أنه "أسلوب متأخر" (Late Style) يتميز باللهفة والإيجاز والشجاعة والقوة: يتذكر المرء أعمال باخ الكورالية الاستثنائية اللاحقة، أو القصص القصيرة الأخيرة لتشيخوف أو قصاصات الورق الرائعة لماتيس المحتضر. قال بيكاسو المسن ذات مرة بشكلٍ مؤثر، في جولة في مدرسة ابتدائية: "في سنهم، كنت أعرف كيف أرسم مثل تيتيان. لقد استغرق الأمر مني العمر كله لأتذكر الرسم كطفل. ما كان يقصده هو أنه استغرق عقودًا للتخلص من الرغبة الملحة في الرسم "بشكل جيد" و "محترم" والاستماع بدلاً من ذلك إلى إحساسه المرح (وهو عمل جاد لا يجب الخلط بينه وبين العبث أو التفاهة). مدفوعًا بالفناء إلى تقديرٍ جديد لمراكز المتعة الخاصة به، تعلم بيكاسو كيفية التغلب على كل آثار الأسلوب المتصنع في شبابه من أجل التركيز بدلاً من ذلك على متعة تزيين قماش بضربات الفرشاة الطليقة والمليئة بالحيوية والألوان الجريئة والمعروفة لدى أساتذة الفن الطبيعي: الأطفال في سن الخامسة. 


"The Pigeons" بابلو بيكاسو، رسمها بعمر الـ76


لا يتعين علينا أن نكون شخصية بارزة في فن القرن العشرين حتى تنطبق علينا هذه النقطة. نحتاج جميعًا إلى تعلم تطوير "أسلوب متأخر" خاص بنا - ومن المثالي أن يكون في أقرب وقت مبكر من حياتنا قدر الإمكان: طريقة للعيش حيث نتخلص من قبضة العادة والخوف الاجتماعي ونعيد تعلم الاستماع إلى ما يمتعنا (و حتى نتمكن من الحصول على أفضل فرصة لإرضاء الآخرين بشكلٍ حقيقي أيضًا). لا يجب أن تنطبق النتائج على أن تُصبح أعمال فنية في المتحف، ولكن على جوانب حياتنا الفعلية: الطريقة التي نختار بها مهنة، أو نستضيف حفل عشاء، أو نذهب في عطلة، أو نحكي حكاية، أو كيف نتصرف مع أصدقائنا. هنا أيضًا تكمن فرص متعددة للتوقف عن مطاردة المجتمع، ولقول ما هو مهم فعلاً والتعبير عما نشعر به وما نريده حقًا - بينما نتثاءب بأدب دون أي جرأة، تموت الحياة في داخلنا ببطء.



ترجمة: سهام - أحمد




تعليقات