الذات متعددة الأوجه

لقد كان يقول الفيلسوف بوباي البحار ذات مرة المقولة الخالدة "أنا ما أنا عليه". قد لا تكون العبارة الأكثر عمقًا، إلا أنها تتوافق مع مدرسة فكرية واحدة حول الذات. أن لكل منا نفس جوهرية "حقيقية" مستقرة وأصلية ومتسقة. هناك بالتأكيد شيء مريح في الاعتقاد بأن كل واحد منا لديه مجموعة فريدة من الخصائص الثابتة التي تساعد على تعريفنا كأفراد، لا سيما في عالم دائم التغير وغير قابل للتنبؤ. لكن الاكتشافات في مجالات علم الأعصاب وعلم النفس بدأت تلقي بظلال من الشك على هذا المنظور.

تشير نظرية تعدد "الشخصيات" أو اضطراب الهوية التفارقي (DID) إلى أن الأشخاص الذين يتصرفون كما لو كان لديهم على الأقل نفسين أو ذاتين متميزتين ومختلفتين، يعتقد أنهما مبنيان اجتماعيًا (Spanos, 1994). لكل ذات أفكارها، وردود فعلها العاطفية، وتفضيلاتها، وسلوكياتها، وحتى ذاكرتها الخاصة بها. في كثير من الأحيان، يكون الكيان المشترك الوحيد هو الجسم المادي الذي يعيشون فيه.
وبالتالي، فيما سنتحدث عنه في المدونة الحالية، يعد التعددية مصطلحًا يشمل الانقسام الشديد للشخصية، والذي يختلف نوعيًا عن تجربة معظم الناس اليومية.




إذا كنت تبحث عن الوحي من السؤال: "من أين يأتي إحساسنا بالذات؟" (هل "الدماغ" هو المتحكم الكامل بالتجربة أو أنها مجموعة تجاربنا الحية) قد تشعر بخيبة أمل. يبدو أن الجواب هو أننا لا نعلم حقًا بعد. إذا كنت تبحث عن جواب لتتمسك به حول الكيفية التي يفضل بها الأكاديميون تصور الذات، يقول ليفين - "نحن أشبه بالجمهورية أكثر من الفرد، أو مجموعة من العديد، والمتنوع، وأحيانًا الخصومة"، أو بتصور آخر، أن النفس هي مجموعة من "الأحياء أو المناطق" وقد تجد أن الحيلة تكمن في معرفة "الحي أو المنطقة" التي تتفاعل معها في الوقت الحالي.


الذات ليست سوى مسمى تقليدي يُعطى لمجموعة من العناصر. - Gautama Buddha


إذًا ما الذي تتكون منه "الذات"؟ من الممكن أن نصف الذات على أنها تتكون من ثلاثة أجزاء متصلة، ولكن أيضًا قابلة للانفصال:


الجزء الأول هو الذات التجريبية. وهي "مسرح الوعي" وتجربة الشعور بالوجود بمنظور الشخص الأول. في هذا السياق، يشمل الاتساق المحسوس للتواجد عبر فترات زمنية. وبهذا المعنى، فهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالذاكرة. هذا هو الجزء الذي "يتلاشى" منك عندما تدخل في نوم عميق، وتومض وتختفي عندما تحلم، ثم تعود مرة أخرى على الخط عند الاستيقاظ. ويشارك أنطونيو داماسو أفكاره حول هذا الجزء من الذات - ويلاحظ بشكل مناسب أنه جزء يرتبط مباشرةً بالوعي التجريبي، كما أنه يرتبط بعمق محركاتك / احتياجاتك الأساسية وحالات الشعور المنتظمة عاطفيًا. هذا المستوى من الذات هو قدرة عقلية نتشاركها مع الحيوانات الأخرى، ويفترض أنه يختفي إلى الأبد عندما نموت (على الأقل من منظور طبيعي).

الجزء الثاني من الذات البشرية يسمى نظام الوعي الذاتي الخاص. في لغةٍ أكثر شيوعًا، يمكننا أن نسميها "الراوي" (أو المترجم)، لأن هذا الجزء من وجودك هو الذي يروي شفهيًا ما يحدث ولماذا ويحاول أن يفهم ما يجري. بينما تقرأ هذه المدونة وتفكر في معنى ذلك، فهذا هو الراوي اللفظي الذي يعمل. وهو أيضًا الجزء الذي يتضمن مفهومك الذاتي للمعتقدات والقيم الصريحة حول الطريقة التي يعمل بها العالم (على سبيل المثال، معتقداتك الدينية والسياسية).

الجزء الأخير من الذات هو الذات العامة أو الشخصية الظاهرة.  يشير إلى الصورة العامة التي تحاول إسقاطها للآخرين، والتي تتفاعل بدورها مع الطريقة التي يراك بها الآخرون بالفعل.


يعطي ايضاح هذه الأجزاء الثلاثة من "الذات البشرية" إدراك أنه على الرغم من أننا نميل إلى تجربة الشعور بالتماسك ووحدة الذات، فإن حقيقة الأمر هي أنه من السهل جدًا أن نقول إن لدينا نفسًا واحدة فقط. لكن إذا فوجئت يومًا بكيفية تصرفك، أو شعرت بالارتباك، أو التعارض، أو عدم اليقين بشأن ماهيتك ومن أنت في الحقيقة، أو أدركت مدى الاختلاف الكبير الذي تشعر به في المواقف المختلفة أو في حالات مزاجية مختلفة، فأنت تعلم أن "الذات" يمكن أن يكون لديها العديد من الجوانب والحالات المختلفة والمتنافسة في الغالب- وإذا لم تكن لديك هذه التجربة، فربما لم تكن تولي الكثير من الاهتمام!



من المهم أيضًا أن يفهم الناس القوى التي تفسر السبب في أننا نحن كبشر نختبر تعدد الأوجه لذواتنا:


١- تصور "الذات" كأنماط من السلوك عبر الزمن: عند دراستها في هذا الضوء، فإن فكرة وجود العديد من الحالات الذاتية تصبح واضحة بمعنى أننا نقوم بأشياء مختلفة جدًا عبر الزمن.

٢- تأثير المواقف: يدمج التفكير في الذات كنمط من السلوك عبر الزمن في نقطة رئيسية أخرى حول سبب تعدد حالاتنا الذاتية، وهو أن سلوكنا هو إلى حد كبير يتغير على حسب الموقف.

الذوات ليست لآلئ روحية مستقلة الوجود، بل هي نتاج إنساني للعمليات الاجتماعية التي تصنعنا. - Daniel Dennett

٣- يتشكل إحساسنا بالذات بعمق من قبل الآخرين: مما يعني أن مفهومنا للذات يتشكل أساسًا من خلال كيفية رؤية الآخرين لنا وكيف نرى أنفسنا فيما يتعلق بالآخرين.

٤- يتم تنظيم الذات الأساسية بدوافع وعواطف: تشكل الذات التجريبية الجوهر المنتظم لذاتنا، وهي بدورها منظمة عن طريق العواطف المرتبطة بأهدافنا.

٥- الذات الحالية مقابل الذات المستقبلية: يعتبر الصراع بين الحاضر والمستقبل أحد أكثر الصراعات شيوعًا بين الحالات الذاتية التي يمر بها الناس، تريد ذاتنا الحالية أن تكون مسترخية بأخذ سجارة والاستمتاع بها، لكن ذاتنا المستقبلية لا تريد سرطان الرئة.

٦- يعتمد الشعور بالاستمرارية الذاتية عبر الزمن على أنظمة الذاكرة: كنت أفكر في كتابة هذه المدونة في الأيام الماضية. كيف لي أن أعرف ذلك؟ لأن لدي أنظمة ذاكرة تربط نفسي الحالية بنفسي السابقة.

٧- استخدام الآليات الدفاعية النفسية ومنها:

الكبح: حيث يتم اخفاء المشاعر ونقلها من الشعور أو العقل الواعي إلى العقل اللاواعي لأن هذه المشاعر غير مقبولة اجتماعيا.

النكوص: وهو العودة إلى مراحل متقدمة من النمو النفسي أو البدني حيث تكون المسؤليات أقل والشعور بالأمان أكثر.

الإسقاط: وفيه يتم نسب المشاعر غير المقبولة إلى الغير، وبالتالي لا يمكن مواجهتها لأنها بصورة لا شعورية تصبح منسوبة إلى الغير.

التكوين العكسي: وهو التصرف بعكس ما يمليه عليه عقله اللاواعي بشكل مبالغ فيهِ وبصورة مفرطة.

التسامي: وتعد واحدة من أكثر الآليات المقبولة حيث يتم فيها التعبير عن الغضب أو التوتر بصورة مقبولة اجتماعيا مثل التخلص من الغضب في لعب الرياضة.

نرى بشكل مستمر في سياق العلاج النفسي أنه عندما يتعلم المرء الجوانب المتعددة للذات ويفهمها، سيبدأ بالفعل في تجربة نفسه كفرد أكثر تماسكًا وسينخفض شعوره بالضياع.

وفي الختام كما يقول جالين ستراوسون في أحد المقولات المفضلة لدي شخصيًا لتعقيدها وبساطتها في الوقت نفسه: ”ببساطة لا يوجد أي ’أنا‘ (I) أو ذات مستمرة طوالَ اليوم، على الرغم أنه من الواضح أن هناك ’أنا‘ (I) من الذات في أي وقت محدد.





المراجع:

Stranger in the Mirror: The Scientific Search for the Self by Robert V. Levine

Psychodynamic Psychiatry in Clinical Practice by Glen O. Gabbard

تعليقات